العصر المملوكي ومكانته في تاريخ الحضارة العربية

العصر المملوكي ومكانته في تاريخ الحضارة العربية

وقر في أذهان الكثير من الدارسين العرب المعاصرين، أن القرون السبعة التي سبقت عصر النهضة الحديثة هي عصر انحطاط بكل ما تعنيه لفظة انحطاط لغة واصطلاحاً، وأن هذا العصر “كان فترة العقم والجمود والانحدار في أدبنا العربي”(1)، وقد أطلقوا عليه تسميات مختلفة، تشير إلى عدم اطلاعهم الوثيق على معطيات هذا العصر، سواء كانت علمية أو أدبية أو ثقافية. ومن تسمياتهم هذه: “عصر الانحطاط”، و”عصر الانحدار”، وعصر الأتراك”، و”عصر الأعاجم”، و”عصر المغول”.

ويناقش الدكتور عمر باشا مدلول لفظة “الانحطاط” فيقرر أن القدماء لم يعرفوا هذه التسمية، وأنها من مخترعات المعاصرين، وأغلب الظن أنها ذات أصل فرنسي، وهي تطلق فيه أصلاً على تأخر الحياة الأدبية والفكرية والعلمية، وقد خصص هذا اللفظ أولاً بانحطاط الأدب اللاتيني، والقرون الأخيرة من العصر الروماني. وتعني اللفظة في معجم أندريه لالاند (Andre Lalande) مادة (Decadence): “مجموعة التحولات التي تحدث في الاتجاه المخالف لذلك الاتجاه الذي يشكل التقدم، إنه الحالة التي تنتج عن ذلك”، وينقل المذكور تعريف هنري إيرنيه مارو للانحطاط، بأنه “مفهوم يعبر عن حكم قيمة يتضمن هو بدوره فلسفة كاملة في التاريخ”، وقد استعمل هذا المفهوم في فلسفة عصر الأنوار, التي كانت تمتلك الشعور بكونها تعيد ربط الصلة مع الأزمنة القديمة المستنيرة، مجاوزة غياهب العصر الوسيط”(2).

لكن من الإنصاف في البحث التاريخي أن نقسم الفترة التاريخية الممتدة من 648/1249 إلى 1337/1918، إلى فترتين تاريخيتين، كان لكل منهما خصائصها ومميزاتها، التي لا تشاركها فيها الفترة الأخرى:

الفترة الأولى: العصر المملوكي

ويمتد من سنة 648/1249 ـ 923/1517، وقد شغلته دولتان متشابهتان في الخصائص والملامح: الدولة المملوكية الأولى  (دولة المماليك البحرية) من عام 648/1249 ـ 784/1382، وحكم فيها 25 سلطاناً. والدولة المملوكية الثانية (دولة المماليك البرجية)، من عام 784/1382 ـ 923/1517، حكم فيها 24 سلطاناً.

الفترة الثانية: العصر العثماني

ويمتد من عام 687/1288 ـ 1337/1918، ولكنه بدأ في العالم العربي سنة 923/1517، بهزيمة قانصوة الغوري في معركة مرج راهط بالقرب من حلب، ونهاية الدولة المملوكية، وحكم في هذه الفترة الطويلة عدداً كبيرا من سلاطين بني عثمان، لعل أشهرهم في نظرنا فاتح بلاد الشام ومصر، فله معهما بالإضافة إلى فتحهما قصة طويلة، كان من نتائجها المباشرة دخول الوطن العربي عصر الانحطاط والظلام الحقيقيين، كما سنبين فيما يأتي من صفحات هذا البحث.

وإذا  كنا نقرر أن العصرين اللذين شكلا عصر الانحطاط كما يرى عدد من الباحثين، لم يكونا متشابهين، فإنهما لم يكونا مختلفين في نوعية الحكم ومسيرته في أراضي كل منهما، بل كانا مختلفين في كل شيء، وأن هذا الاختلاف كان سبباً في عدم مشروعية إطلاق صفة الانحطاط عليهما معاً، وسنعتمد على الحقائق التاريخية واللغوية في التفريق بين العصرين وإثبات اختلافهما، كما سنؤكد عدم مشروعية صفة الانحطاط لهما معاً، اعتماداً على عدد من المؤرخين العرب والأجانب الذين كفونا مؤونة البحث في ذلك، ولذا سنورد آراء هؤلاء المؤرخين في كل منهما بشكل منفصل، قبل أن نتحدث عن المسؤولية التاريخية والأدبية والدينية والأخلاقية عن تواجد هذا العصر في بلادنا،في الفترة التي حكموها فيها، وهي فترة امتدت ما يزيد عن أربعة قرون متطاولة.

 

الخصائص التي تميّز بين العصرين:

1ـ قامت الدولة المملوكية على أرض عربية في جميع أصقاعها، ولم تتعداها في جميع مراحلها من الدولة البحرية إلى البرجية، بينما قامت الدولة العثمانية على أراض تركية ويونانية ومجرية وروسية وأوروبية، ثم ضمت إليها أراض غربية بعد قضائها على الدولة المملوكية عام 923/1517.

2 ـ اعتمدت الدولة المملوكية على العنصر العربي في تسير أمورها وشؤونها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وجزء من الشؤون السياسية والعسكرية، فقد تولى العنصر العربي فيها التدريس ورئاسة المدارس، والقضاء، ونظر الدواوين، ككتابة السر، والجيش، والجوالي، والحسبة، حتى كثير من شؤون السلاطين المماليك الخاصة كانت في يد العنصر العربي.

أما الدولة العثمانية، فقد كانت عثمانية تركية في كل شيء، إذ اعتمدت على العنصر التركي حكاماً ورؤساء دواوين وموظفين، وجمعت جيشها من أطياف شتى من الأسرى والعبيد وأبنائهم، حيث ربتهم ودربتهم تربية خاصة بها. وسارت في خطة هدفت إلى القضاء على العناصر الوطنية ولغتها وثقافتها في كل بلاد حكمتها، فقد حاولت بعد استيلائها على بلاد الشام ومصر، القضاء على العنصر العربي في كل مجالات عمل الدولة، مما جعل وجهها في العالم العربي وجهاً أجنبياً غريباً عن البلاد وأهلها.

3 ـ اعتمدت الدولة المملوكية اللغة العربية لغة رسمية لها في مجالات الكتابة والرسائل، وتربى المماليك بشكل عام تربية عربية إسلامية، من خلال الطباق الذي كان يشكل المدرسة الأولى التي يلتحق بها المملوك عن جلبه أو شرائه، وقلة هم سلاطين المماليك الذين كانوا يتقنون لغات بلادهم التي وفدوا منها، وقد نشط هؤلاء السلاطين في الاهتمام باللغة العربية وآدابها فبنوا لها المدارس، وأنفقوا عليها بسخاء وأكرموا علماءها وأدباءها ومثقفيها.

أما الدولة العثمانية فقعد اعتمدت اللغة التركية لغة رسمية لها، وحاولت فرضها على جميع أهل البلاد المفتوحة، مما جعلها تهمل المدارس ومراكز\ الثقافة والعلم التي كانت قائمة قبل دخولها لها، ويحدثنا الآباء والأجداد أن قراء العربية وكتابها كادوا ينعدمون في العصر العثماني، وكان الناس يعانون من معرفة محتويات رسالة إذا وصلت إلى واحد منهم. وكان من آثار محاربة الدولة العثمانية للغة العربية “أن انقطعت أسباب هؤلاء الكتاب، وخمدت أذهانهم، وتقصفت أقلامهم، حتى لم يعودوا يجدون في أنفسهم قدرة على التعبير، وتعثروا في الركاكة، التي ما بعدها ركاكة، وأخذوا يسترونها بالتلصص الأدبي… وأما البديع والتلاعب بأنواعه، فذلك ما عجزوا عنه أيضاً، لأنه وإن كان تكلفاً، إلا أنه صنعة تحتاج إلى حذق وغنى في ألفاظ اللغة، وذلك ما لم يكونوا قادرين عليه”(3).

 

جناية الدولة العثمانية على الحضارة العربية:

أشرنا قبل قليل إلى أن الدولة المملوكية سقطت تحت سنابك الجيش العثماني عام 923/1517، ولكننا لم نشر إلى ما فعله الأتراك في بلاد والشام ومصر على أثر ذلك، لقد فعل العثمانيون في هذين البلدين العربيين ما لم يفعله تيمورلنك، رغم الوحشية والهمجية التي كان عليها هذا الفاتح، لقد اكتفى بجمع عدد كبير من العلماء المشهورين في مختلف العلوم والفنون وأرسلهم إلى عاصمته سمرقند، حيث بقوا فيها إلى أن توفي سنة 1405م(4)، إذ عاد كل منهم إلى موطنه الأصلي، وعاد ليواصل عطاءه العلمي فيه.

أما العثمانيين فيحدثنا عن أعمالهم في بلادنا مؤرخ كان الوحيد الذي عاصر الفتح العثماني لها، وقد شاهد بأم عينه ما يرويه من أحداث وأخبار عن هذا الفتح(5)، ذلك هو ابن إياس الحنفي(6). وعندما نقول إن العثمانيين كانوا السبب الأول في دخول العالم العربي عصر الانحطاط، اعتباراً من عام 923/1517، فإننا لا نقول ذلك جزافاً، ذلك أن العثمانيون جمعوا أدوات الحضارة المادية والثقافية والعلمية، كما جمعوا أعلامها، ووضعوها بالقوة في عاصمتهم، أملاً بأن يسهم هذا الصنيع الحياة والتقدم والازدهار فيها، مما جعل العالم العربي يبدوا قفراً، وكان الحضارة العريقة لم يكن لها مكان فيه.

وأول ما يصف ابن إياس من فظائع العثمانيين في مصر، الإشارة إلى ما حدث في عام الفتح العثماني لها فيقول: “وكانت سنة صعبة شديدة على الناس، كثيرة الحوادث والفتن، جرى فيها أمور شنيعة لم تجر في سالف الأزمان… ولعب السيف في أهل مصر سبعة أيام… وتغير(ت) فيها ثلاث دول… ولم تقاس أهل مصر شدة أعظم من هذه إلا زمن البخت نصر البابلي”، “ولم تقاس مصر أهل مصر شدة من قديم الزمان أعظم من هذه الشدة، ولا سمعت بمثلها في التواريخ القديمة”(7)

ليس ما أصاب مصر من قتل ودمار وخراب هو موضع اهتمامنا هنا، فذلك ديدن الحروب على مـــر

عصور التاريخ، ولكن إفراغ البلاد من أدوات الحضارة قسراً، ونقلها إلى عواصم الغزاة لتزدهر فيها،

فذلك هو أسوأ ما قام به غازٍ في التاريخ، وقد سجل ابن إياس هذه الإشارة فقال: “ومن أعظم مساوئ سليم شاه ابن عثمان خروج أعيان رؤساء الديار المصرية ونفيهم إلى إسطنبول”(8). لقد أفرغ سليم الأول القاهرة ودمشق وبقية المدن المملوكية من كل رموز الحياة السياسية والاجتماعية والأدبية، فقد نقل إلى إسطنبول كرهاً أغلب أعيان الرؤساء، والأمراء وأولادهم، ومقدمي المماليك السلطانية، وأولاد الناس(9)، والقضاة الشافعية والحنفية، والمالكية، والحنابلة، والبرد دارية(10)، ورؤوس النوب(11)، ومقدمي السقايين، وجماعة من طوائف اليهود والسمرة، والنصارى، من كانوا يعملون في دوائر الدولة ودواوينها.

أما الحياة الاقتصادية فقد أحالها إلى عدم بعد أن شحن السفن المتجهة إلى بلاده بكل ما كان يمثلها، فقد أخذ السيوفيين، والبنائين، والنجارين، والحدادين، والمرخِّمين، والمبلطين، والخرَّاطين، والمهندسين واالحجارين، وعمال هذه المهن، الذين يسنيهم ابن إياس “الفعلة”، وذلك بحجة أنه أراد أن يبني مدرسة في إسطنبول تشبه مدرسة السلطان الغوري في الشرابشيين من القاهرة، ولكن الأمر لم يكن كذلك، فقد أجبر المنقولين والمرحلين على اصطحاب نسائهم وأبنائهم، ومنهم من كان رضيعاً لا يقوى على السفر(12).

ولما أراد جماعة من هؤلاء العودة إلى ديارهم سنة 925/  بدعوى بأن وراءهم في ديارهم أولاد وعيال يودون أن يروهم، رفض طلبهم، ولم يسمح لهم بذلك إلا بعد أن أقاموا لهم ضُمَّاناً في إسطنبول، يضمنون عودتهم إليها(13). ولما كان أمر بقاء كل هذه الفئات في إسطنبول قسراً، فقد حاول كثير منهم الفرار منها والعودة إلى ديارهم، إذ تمكن عدد من أعيانهم من الفرار والعودة إلى ديارهم، وقد أحصى ابن إياس أسماء أكثر من أحد عشر شخصاً تمكنوا من العودة إلى مصر هرباً(14)، ولكن كثيراً ما كان يتم القبض على الفارين منهم(15).  وفي سنة 926/ اشتكى عدد من هؤلاء الموظفين إلى بعض وزراء سليم الأول،”أن وظائفهم التي بمصر خرجت عنهم، وتعطلت جهاتهم، وأخذت الناس أموالهم، بموجب غيابهم في إسطنبول، فقالت لهم الوزراء: قيّموا لكم ضُمَّان، وتوجهوا إلى مصر، صحبة جماعة من الإتكشارية، فاكشفوا على وظائفكم وجهاتكم، وارجعوا إلى إسطنبول على وجه الصيف، ففعلوا ذلك، وحضروا إلى مصر وصحبتهم الإنكشارية، وفيهم من ترك أولاده وعياله باسطنبول إلى أن يرجع إليها”(16).

وبقيت الفئات التي أشرنا إليها تقيم وتعمل في إسطنبول كأسرى، إلى أن تولى السلطان سليمان القانونـي

زمام الأمور، إذ أمر بعودة جميع الأسرى الذين أسرهم والده في حروبه وغزواته إلى بلادهم، فعاد جماعة

من أهل مصر إليها(17). لكن الناظر في قوائم أسماء الذين عادوا إلى مصر حسب رواية ابن إياس يجد أنهم كانوا من كبار الأعيان ورؤساء الوظائف الحكومية المملوكية والقضاة، وأن لا وجود للحرفيين وأصحاب المهن بين العائدين، مما يشير أن هذه العودة لم تعد النشاط الاقتصادي والتجاري والصناعي إلى سابق عهودها.

لم يكثف العثمانيون بكل ذلك، إذ انتشر جنودهم في كل مكان من البلاد يجردونها من مواد البناء، فقد نزعوا أبواب المباني وسقوفها وحديد شبابيكها وطيقانها، وحمّلوها على ظهور الرواحل نهاراً جهاراً، باعوا منها ما شاؤوا بأبخس الأثمان، وجعلوا قسماً منها وقوداً لطهي طعامهم، وكانت نتيجة ذلك أنهم “أخربوا غالب الطباق التي بالقلعة”(18).

وفي سبيل إزالة الرسوم والتقاليد المملوكية في الحكم والحضارة أصدر العثمانيون المراسيم التي تلغي مثل هذه الرسوم والتقاليد، ففي سنة 927/ استبدل الذراع الهاشمي المتداول في مصر بذراع إسطنبولي، يزيد عنه بخمسة قراريط، وقد شقَّ ذلك على التجار وأرباب الصنائع، ومنع الصيارفة في الحجاز من التعامل بالدينار الذهب، (19). وفي السنة نفسها فرض السلطان سليمان العثماني على القضاة والمحاكم المصرية والشامية نظام القضاء العثماني (يسميه ابن إياس ” اليسق العثماني)، وفقاً لمذهب الإمام أبي حنيفة(20)، وتدخلت الدولة في أمور الناس الشخصية، حيث أصر الوالي العثماني أن يتم قص اللحى وأن تضيق الأكمام حسب الطريقة العثمانية(21)، وحرموا على النساء ركب الحمير، وأجبرت على ركوب الأكاديش على الطريقة العثمانية(22). وفي عام 928 قام العثمانيون بإلغاء الموازين المتعارف عليها في مصر واستبدلوها بأخرى عثمانية(23)،

وكان من نتائج ذلك ما قاله المؤرخ ابن إياس عن العثمانيين: ” واستمرت أرباب هذه الدولة في آراء معكوسة، ليس لأحد منهم رأي سديد، \ولا لهم مستشار يرجع إليه، وصار كل أحد منهم يشير برأي غير صواب، ويتكلم بكلام غير مفيد، وقد ضاعت الكلمة بينهم، وآلت أحوال مملكة مصر إلى الخراب، وكل هذا من سوء قبح تدبيرهم، وقلة عرفانهم، وعدم تجاربهم للأمور، وقلة نظرهم في العواقب، بما يؤول أمره من خير أو شر”(24) ،

ويقول المؤرخ المعاصر محمد عبد الله عنان: “لقد لبث سليم الأول في القاهرة زهاء ثمانية أشهر، يذيق وجنده المصريين أشنع ألوان السفك والظلم والمصادرة، ويجمع من تراث مصر وثرواتها الفنية كلَّ ما وصلت إليه يده، ويخرب المساجد والآثار الخالدة، لينتزع منها نفائسها الفنية، ويبعث بها إلى قسطنطينية، ويقبض على أكابر مصر وزعمائها ورجال المهن والفنون فيها، ومهرة الصناع والعمال، ويحشدهم أكداساً في السفن، ويبعث

بهم إلى قسطنطينية”(25). وأمر سليم الأول إلى وزرائه بجمع الكتب النفيسة من مدارس القاهرة ومكتباتها ومساجدها، فخربت مكتبات مدارس كثيرة، كالمحمودية، والمؤيدية، والصرغتمشية، وغيرها من المدارس التي تتواجد فيها كتب نفيسة، فنقلوها ووضعوا أيديهم عليها، “ولم يعرفوا الحرام من الحلال في ذلك(26).

فحملت مع “البنائين، والمهندسين، والنجارين، والحجارين، والمرخمين، وصناع الأسلحة، وغيرهم من أبناء الحرف ـ مسلمين كانوا أم نصارى ـ إضافة إلى كبار الموظفين والكتاب والتجار، وسيقوا إلى الإسكندرية، فوضع الرجال في الخانات، ونساؤهم في الأبراج، قيل إن عددهم بلغ ألفاً وثمانمائة إنسان، ثم جرى تسفيرهم إلى العاصمة إسطنبول”(27). وخرج الفاتح العثماني بعد أن أمضى في القاهرة ثمانية أشهر، “وصحبته ألف جمل محملة ما بين ذهب وفضة، عدا ما غنمه من التحف والسلاح والصيني والنحاس المكفت والخيول وغير ذلك، حتى نقل منها الرخام الفاخر ومن كل شيء أحسنه”(28).

ويذكر ابن إياس أسماء الأماكن التي أخذ العثمانيون رخامها، فيشير إلى أن سليم الأول نفسه أخذ الرخام الذي كان في قاعات القلعة، ومنها: قاعة البيسرية، وقاعة الدهيشة، وقاعة البحرة، والقصر الكبير في القلعة، كما أخذ العواميد السماقي من الإيوان الكبير. وأوعز إلى أتباعه بجمع ما يقع تحت أيدهم من رخام وتخف، فكانوا يجمعون بعضاً من المرخمين، ويهجمون بهم على بيوت الناس، ويأخذون ما في قاعاتها من رخام فاخر، كالسماقي والزرزوري والملون، فخربت بيوت وقاعات كثيرة، وخربت أوقاف المسلمين وبيوت الأمراء والمباشرين والتجار وأبناء الناس(29).

ويختتم ابن إياس حديثه عما فعله سليم الأول في مصر، بقصيدة طويلة، تقع في 58 بيتاً، نقتطف منها ما يوثق تحول الشام ومصر إلى بلاد متخلفة في العصر العثماني، غاضين الطرف عما فيها من هنات لغوية وعروضية، فهي تعتبر وثيقة تاريخية قبل أن تكون قصيدة شعرية:

نوحوا على مصر لأمر قد جرى      من حادث عمَّت مصيبته الورى

زالت عساكرها مـن الأتراك في     غمض العيون كأنها سنة الكرى

لهفي على شيخو وجامعه الــذي     قد كان للصلوات مجتمع الورى

درست معالمه بحرق صـار من      بعد التزخرف والرياضة أغبرا

لهفي على الأبواب كيف تكسرت      وخلت أماكنها وصاحبهـا سرى

لهفي على تهب القماش وبيعــه      وبأبخس الأثمان صارت تشترى

لهفي على سوق الصليبة كيف قد      أخلت حوانيت به ممــا جرى

لهفي على فك الرخام ونقلـــه      من كلِّ بيت كـــان زاهٍ أزهرا

زالت محاسن مصر من أشياء قد      كانت بها تزهو عـــلى القرى

الله أكبر إنهـــا لمصيبـــة      وقعت بمصر ما لهــا مثل يُرى

ولقد وقفت على تواريخ مضـت       لم يذكروا فيها بأعجب مـا جرى

لهفي على عيش بمصر قد خلـت     أيامــه كالحـلم ولَّى مــدبرا(30)

وهكذا يتبين لنا أن عصر الانحطاط قد بدأ في العالم العربي مع مجيء العثمانيين، إذ عملوا على تفريغه من كل الفئات المجتمعية الفاعلة، التي تلعب دوراً كبيراً في النشاط الصناعي والتجاري والثقافي الذي يسر بالأمة قدماً في طريق التقدم والإزدهار، وتلك جناية لا تشبهها جناية، فقد “بطلت بذلك من القاهرة قرابة خمسين حرفة، وصارت الصناعة نحو التقهقر”(31)، إضافة إلى تخريب المعالم الحضارية في الدولة بعد نزع أبوابها وشبابيكها ورخامها وعواميدها. لقد كانت جناية العثمانيين مزدوجة، إذ شملت أولاً القضاء على العنصر البشري المؤهل والمدرب الذي كان يقوم على الحرف والمهن المختلفة، وجهاز الموظفين الذي كان يدير شؤون الدولة، وخاصة الشؤون العسكرية، وجهاز القضاء، وشملت ثانياً إخلاء البلاد من المهن والحرف والصناعات نفسها.

 

العصر المملوكي في نظر المؤرخين والباحثين:

ليس في التاريخ عصر إلا وكان له مؤيدون مادحون أو معارضين ذامين، إلا أن الذاميـن والشامتون

بالعصر المملوكي، لم يعتمدوا على وقائع وأحداث تؤيد وجهة نظرهم، ولم يدرسوه دراسة مستفيضة تتيح

لهم إصدار أحكام صحيحة عنه، وحتى انقضاء الربع الثالث من القرن العشرين ظلَّ كثير من الدارسين المعاصرين يعترفون في أبحاثهم أنه ” لم تكتمل الدراسات في الأدب العربي، المتعلقة بالعصرين المملوكي والعثماني، على الرغم من تعدد الباحثين والدارسين في تاريخ الأدب لدى العرب والمستشرقين وما زال الأدب في هذين العصرين المظلومين يشكو ندرة الدراسات وقلة الأبحاث”(32)، ولعل من أسباب ذلك أنه لم تتوفر لديهم مصادر العصر الأصيلة، إذ قامت حركة الإحياء في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين على الاهتمام بحركة التأليف في العصر العباسي، تحقيقاً وطباعة ونشراً
، ولم يتح لأدب العصر المملوكي من النشر والتحقيق إلا بعض كتب الموالد والمدائح النبوية والألغاز والأحاجي، والبديعيات.

لكن رغبة عدد من الباحثين والدارسين في التدقيق والاستقراء والإطلاع على مصادر العصر المملوكي،

جعلتهم يضطلعون على مخطوطات هذه المصادر، فدرسوا العصر من خلالها، وأعطوا أحكاماً أقرب ما تكون إلى الدقة، يقول شوقي ضيف: “لعل عصراً لم يظلمه الباحثون من عرب ومستشرقين كما ظلم هذا العصر، فقد سموه خطأ باسم العصر المغولي، ونعتوه بأنه كان عصر انحطاط وضعف … وهو حكم جائر، كتب له أن يذيع ويشيع على الألسنة، وأن يلقي أستاراً صفيقة على هذا العصر، تحجب حقائقه العلمية والأدبية عن أنظار الباحثين المعاصرين … ومن الظلم البيِّن لهذا العصر الذي سحقنا فيه المغول والصليبيين، ودمرنا جموعهم تدميرا أن يوصف في ديارنا الشامية والمصرية بأنه عصر انحطاط وإعياء فكري وعقم شديد”(33).

ويقول محمد رجب النجار: “إن الأدب في عصور المماليك لم يلق بعد حقه العلمي والمنهجي من الدراسة، تحت طائلة وهم فارغ أنه ينتمي إلى عصور الركود السياسي، وكأن الركود الفكري والفني والأدبي مرهون بالركود السياسي”(34)، “والحق أنه لم يكن هناك ركود ولا خمود ولا تعطل ذهني، إنما كانت هناك محافظة قوية بدافع الاحتفاظ بالشخصية العربية أمام أعدائها المغيرين من التتار، خشية أن تضعف أو تضمحل، أو يصيبها أي وهن، من شأنه أن يؤثر على قوانا العاتية”(35).

أما حسين مؤنس، فيقول: “لو وهبني الله شيئاً من فراغ الوقت … لأنشأت كتاباً عن القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، ذلك القرن الذي جمع بين حوادث التاريخ الحاسمة في الشرق والغرب، ما يجعله عصراً قائماً بذاته… وتألقت القاهرة كعاصمة كبرى لعالم العرب والإسلام، وقام بالحكم فيها مماليك، كانوا جنوداً عظاماً، قاموا بواجبهم العسكري خير قيام، فاستنقذوا الشام من أيدي التتار، وحموا بقية عالم الإسلام غرباً من بلائهم الشديد، وفي ذلك القرن ازدهرت كذلك دمشق وبقية عواصم الشام، وزخرت القاهرة بالعلماء من كل صنف، وبلغ العصر الذهبي الثاني لعلم التاريخ عند العرب أوجه”(36).

ويدفع زكي المحاسني تهمة الانحطاط عن العصر، فيقول: إن عصوراً  تقوم فيها مدارس العلم بهذا العدد الهائل، ويكون فيها سيل من كتب التأليف في العلوم والآداب ومختلف الثقافات المعروفة حتى زمنها، لهي عصور ازدهار ومن الجور عليها أن تنعت بالانحطاط”(37)، وينقل عمر باشا عن طه حسين قوله: “ما يقال نت أنه كان عصراً مظلماً… هذا هو السخف بعينه، فهو من أزهى العصور الإسلامية بالنسبة للقاهرة والبلاد العربية، وهذا يكفيه”(38).

وترى ليلى الصباغ “أن الحضارة العربية الإسلامية لم تشلَّ، ولم تخبُ جذوتها، بل ظلت فالعلة، متقدة العطاء مع افتتانها بتلوينات جديدة”(39)

العصر العثماني في نظر المؤرخين والباحثين:

يقول طه حسين عن العصر العثماني: “إما العصر المظلم هو عصر الترك العثمانيين في مصر، والسبب في غاية البساطة، هو أن الترك لم يفعلوا شيئاً… ماذا صنع الترك العثمانيون بالمجيدين من العمال في مصر؟، أخذوها … وماذا صنعوا بما في المساجد من الكتب؟، أخذوها… وماذا فعلوا بهذه الكتب؟، أخذوها إلى المكتبات وأغلقوا عليها، فإذا أردنا الحصول على هذه الكتب، وجدنا صعوبة”(40).


المراجع

(1) باشا، الأدب العربي في العصر المملوكي، ص: 11.
(2)  ن. ن. ، ص: 11 ـ  12(3)  الركابي، الأدب العربي من الانحدار إلى الازدهار، ص: 145.(4)  شبولر، العالم الإسلامي في العصر المغولي، ص: 121.(5)  ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، 5: 5 – 6.

(6)  محمد بن أحمد بن إياس بن جنيد بن أزدمر العمري، من أبناء المماليك، ولد سنة 852/1448، تتلمذ على عدد من مؤرخي عصره، كالجلال السيوطي، وعبد الباسط بن خليل الظاهري، وضع عدداً من المؤلفات التاريخية، أشهرها كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور“، توفي سنة 930/1523.  (عمر فروخ، معالم الأدب العربي، 1: 238. ودائرة المعارف الإسلامية، 3: 812)

(7) ابن إياس، المصدر السابق، 5: 228، 232.

(8) ابن إياس، بدائع الزهور، 5: 229.

(9) أولاد الناس: فرقة من الجيش المملوكي، تشمل أبناء المماليك المملوكين بدون عبودية، كان أبو الواحد منهم مملوكاً وأصبح حراً، فأولاده أحرار يشكلون هذه الفرقة المعروفة بـ “أولاد الناس”، ومنهم المؤرخان ابن تغري بردي وابن إياس الحنفي. (محمد أحمد دهمان، معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي، ص: 26 . وابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، 16: 497)

(10) البرد دراية: مفردها “برددار”، وهو الذي يكون في خدمة مباشري الديوان الحكومي، متحدثاً على أعوانه والمتصرفين فيه.   (محمد دهمان، المصدر السابق، ص : 32)

(11) رؤوس النوب: راس نوبة: لقب يطلق على من يتحدث على مماليك السلطان أو الأمير، وينفذ أوامره فيهم. وكان لهم أربع ضباط كبار، يسمى الواحد منهم “رأس نوبة النوب. (ابن الصيرفي، نزهة النفوس والأبدان، 1:37، ح: 6. ومحمد دهمان، المصدر السابق، ص: 81)

(12)  ابن إياس، المصدر السابق، 5: 232.

(13) م. ن. ، 5: 308. (أبو يزيد “يلدرم” أسره تيمورلنك سنة 805هـ، ووضعه في قفص من حديد، وطاف به البلاد إلى أن توفي/ابن إياس:5: 364)

(14) م. ن. ، 5: 336.

(15)  م. ن. ، 5: 355.

(16) م. ن. ، 5: 354.

(17) م. ن. ، 5: 395.، 396، 398، 403، 411، 421، 426، 433 ـ 434،

(18) م. ن. ، 5: 233.

(19) م. ن. ، 5: 415، 416، 471.

(20) م. ن. ، 5: 417، 418، 453،

(21) م. ن. ، 5: 429.

(22) م. ن. ، 5: 462.

(23) م. ن. ، 5: 444.

(24) م. ن. ، 5: 327.

(25) محمد عبد الله عنان، مصر الإسلامية، ص: 219 ـ 220.

(26) ابن إياس، بدائع الزهور، 5: 179.

(27) محمد أحمد دهمان، العراك بينالمماليك والعثمانيين الأتراك، ص: 298.

(28) ابن إياس، بدائع الزهور، 5: 207. ودهمان، العرالك، ص: 300.

(29) ابن إياس، بدائع الزهور، 5: 179.

(30)  ابن إياس، بدائع الزهور، 5: 198 ـ 200.

(31) م.  ن. ، 5: 179.

(32) باشا، تاريخ الأدب العربي في العصر المملوكي، ص: 5.

(33)  م. ن. ، 15. نقلا عن: المجلة، العدد 122 شباط (فبراير) سنة 1967.

(34)  باشا، المصدر السابق، ص: 16. نقلاً عن: عالم الفكر، المجلد 12، العدد 3، ص: 70.

(35)  باشا، المصدر السابق، ، ص: 16. نقلاً عن:  شوقي ضيف، البحث الأدبي، ص: 54.

(36)  باشا، المصدر السابق، ص: 17. اعتماداً على حسين مؤنس، مجلة العربي، العدد 9، شباط (فبراير)، 1967.

(37)  باشا، المصدر السابق، ص: 18. نقلاً عن: زكي المحاسني، الشاب الظريف، ص: 25 ـ 26.

(38)   باشا، المصدر السابق، ص: 18.

(39) ddd

(40)  م. ن. ، ص: 18ـ 19.